التعليم عن بعدمفاهيم

كيف تتم عملية الفهم؟ وما هي أهم عناصرها ومعيقاتها؟

تهتم البحوث التي تجرى اليوم في ميدان علوم التربية بعدة مواضيع  منها: نتائج العملية التربوية و الظروف التي تجري فيها العملية التعليمية.. و نستطيع أن نقول أنها تولي اهتماما أكبر لما يقوم به المتعلم أثناء العملية التعليمية. و هكذا فإن البحوث التي تجرى في هذا الميدان – بالإضافة إلى مواضيع أخرى – تعمل على حصر العناصر التي من شأنها أن تساهم في إنجاح العملية التعليمية.

سنتطرق في  هذا المقال إلى إشكالية الفهم وذلك لما لها من أهمية في العملية التعليمية، ذلك أن هذا الموضوع يشغل العديد من المهتمين بالأمور التربوية و خاصة المدرسين، و هذه الحيرة نابعة من كون تقدم المستوى الدراسي و التعليمي للمتعلمين لا  يصاحبه تحسن في درجة كفاءة المتعلم.و بتعبير آخر، هناك نوع من عدم التناسب بين درجة كفاءة المتعلمين و مستواهم الدراسي.  نعتقد أنه يمكن  تفسير هذه الظاهرة  في إطار التعريف التقليدي الذي أعطي للعملية التعليمية و الذي بمقتضاه يكفي أن نقوم بعملية التدريس لكي يفهم التلاميذ، أي أن عملية  التعلم تسير وفقا لعملية التعليم.

في الواقع، تشير الأبحاث التربوية إلى أن  هذين  الحدثين مستقلان و مختلفان و أن هذا الاختلاف من شأنه أن يخلق نوعا من عدم التوازن بين عملية التعليم و عملية التعلم، بل يمكن أن يكون سببا في فشل العملية التعليمية. و هو ما دفع الباحثين للعمل و التركيز على أحد هذين المحورين.

كما أشرنا آنفا، إن اهتمامنا في هذا العمل ينصب على محور عملية التعلم و بالذات على إشكالية عملية الفهم ، و سنتطرق إلى هذا الموضوع متبعين  الخطوات الآتية:

1- المقصود بعملية الفهم

2- كيفية حدوث عملية الفهم

3 – العوامل التي تعوق عملية الفهم

4 – العناصر التي تلعب دورا و تحدد مدى نجاح عملية الفهم

5 – الانعكاسات التربوية

1- ما هي عملية الفهم ؟

إن المقصود بعملية الفهم يمكن أن يختلف باختلاف مجالات المعرفة أو بتعبير آخر نقول أن كل تعريف يمكن أن يعكس مجالا معينا من مجالات المعرفة. و سنعتمد في هذا العمل على التعريفات المقدمة في مجالي علم اللغة النفسي و علم التربية و الامتحانات.

– ففي علم اللغة النفسي يعرف الفهم بأنه:  ” عملية تفاعل يلعب فيها القارئ و النص و السياق دورا أساسيا، و فيها يقوم القارئ بعملية إنتاج للمعنى و ذلك  بتفسير محتوى النص انطلاقا من معلوماته و أفكاره الشخصية و من خلال ما يرمي إليه من عملية القراءة  ” [1]

– أما في مجال علم التربية و الامتحانات فيعرف الفهم بأنه: ” تمرين يطلب فيه المدرس من التلميذ أن يقرأ أو يسمع نصا ثم يجيب على عدد من الأسئلة التي يستطيع من خلالها التعرف على مدى فهم المتعلم للنص، و معرفة مدى تحقيق الأهداف المنشودة من العملية التعليمية ” [2]

انطلاقا من هذين التعريفين نستطيع أن نعتبر عملية الفهم في مجال علم اللغة النفسي، نشاطا يقوم به المتعلم لإعطاء معنى للأشياء؛ هذا في الوقت التي يعتبر علم التربية و الامتحانات موضوع الفهم أداة نستطيع من خلالها معرفة المستوى الذي وصل إليه المتعلم في ميدان من ميادين المعرفة.

إننا في هذا المقال نركز على التعريف الذي يدخل في إطار علم اللغة النفسي، حيث يقول  فرانك سميث  Frank  Smith  : ” الفهم هو عبارة عن عملية إعطاء معنى للأشياء ” [3] و يذهب هذا الباحث إلى أبعد من ذلك حين يقول : ” إن المعنى لا يأتي من النص إلى المستمع أو القارئ، بل القارئ هو الذي يأتي بالمعنى للنص ” [4]

في نفس السياق عرف كل من هـنري  بوايي و ميشال بوزباش – ريفارا H. BOYER et M. BUTZBACH – RIVERA  عملية الفهم بأنها : ” عبارة عن إنتاج لمعنى و ليست عملية تلق و استقبال ” [5]

و يمكن القول، انطلاقا من هذه المعطيات، إن الذي يحدد مستوى فهم النص و درجته ليس طبيعة المحتوى و درجة وضوح النص و لكن طبيعة المعلومات الأولية التي يمتلكها المتعلم و المتعلقة بمحتوى النص. حول هذه النقطة تقول بريت ماري بارت Britt – Mari BARTH : ” إن ما يعرفه الفرد و طريقة معرفته له تؤثر على الطريقة التي يتعامل بها مع النص. فليس محتوى النص هو الذي يؤثر على المتعلم و لكن المعلومات التي يمتلكها هذا الأخير هي التي تمكنه من فهم معنى النص ” [6]

2 – كيفية حدوث عملية الفهم

للتطرق إلى هذا الموضوع سنعتبر أن عملية الفهم تحدث نتيجة قيام الفرد بعدة عمليات ذهنية تسمح له بإعطاء معنى للنص. لقد كان هذا الموضوع محل اهتمام العديد من الباحثين، و في هذا العمل سنقوم بذكر ثلاثة أعمال قام بها ثلاثة باحثين و قدموا ثلاثة نماذج  محاولين من خلالها تفسير كيفية حدوث أو طبيعة العمليات الذهنية التي توصلنا إلى الفهم.

أ- النموذج الأول

وهو الذي اقترحه أنتوان دو لا جارندوري  Antoine DE LA GARANDERIE   زعيم التيار التربوي الذي يعرف باسم ”  الإدارة التربوية للعمليات الذهنية  ”  Pédagogie de la gestion mentale. يهتم هذا الباحث بدراسة طبيعة النشاط الذهني الذي يقوم به التلميذ أثناء العملية التعليمية، و هذه العملية – حسب رأي  أنتوان دو ل لا جارندوري – ترتكز على عنصريين أساسيين هما:

     أولا : المشروع

و يقصد به أن يكون للتلميذ هدف يرمي الوصول إليه من وراء فهمه للمادة العلمية بل و أن يتصور نفسه -عند حدوث العملية التعليمية – في حالة تطبيق لذلك المشروع.

     ثانيا : تكوين صور ذهنية

أثناء عملية التعلم يقوم التلميذ بتكوين صور ذهنية – سمعية كانت أو بصرية- لما يقوم به المدرس أثناء شرح الدرس. بتعبير آخر، لكي تتم عملية فهم المادة العلمية يقوم التلميذ بترجمة المعلومات إلى صور ذهنية. إن عملية الترجمة هذه تعتبر عملية أساسية لاستيعاب المعلومات و لاستدعائها من وقت إلى آخر، الأمر الذي يجب الإشارة إليه هو أن ترجمة المعطيات إلى صور ذهنية و بالتالي تخزينها داخل الذاكرة تتطلب إيجاد علاقة معينة بين المعطيات الجديدة و المعطيات التي تم تخزينها، فبدون إيجاد أي نوع من العلاقة لا نستطيع أن نترجم مضمون المادة العلمية إلى صور ذهنية و بالتالي لا تتم عملية الاستيعاب.

ب- النموذج  الثاني

هو الذي قدمه جوديث إيروين  Judith W. Irwin  و الذي أشار فيه إلى المراحل المختلفة التي تمر بها عملية الفهم، أو بتعبير آخر العمليات الذهنية التي يقوم بها القارئ لإعطاء معنى للنص. هذه العمليات هي :

أ – العمليات الأولية الصغيرة و هي التي تدخل في فهم عناصر الجملة و تسمح لنا بالتعرف على الكلمات و قراءتها مع بعضها البعض.

ب – عمليات التكامل و الدمج  Les processus d’intégration  و هي التي تساعد على البحث عن التماسك و الانسجام الموجود بين الجمل.

ج – العمليات الذهنية الكبرى و هي التي تهدف إلى فهم المعنى العام للنص و ذلك باعتباره كلا متكاملا و كذلك بفضل استعمال تركيبات أو أجزاء النص و التعرف على الأفكار الرئيسة.

د – عمليات التكوين  Le processus d’élaboration  و هي تلك التي تسمح للقارئ بإعطاء معنى آخر للنص بفضل عمليات الاستنباط الشخصية و الافتراضات و الصور و العمليات الذهنية.

ج- النموذج الثالث

يدخل  النموذج  الثالث في إطار ما يسمى بنظرية النماذج [7]، و قد تطرقت   باتريسيا كاريل إلى هذا النموذج  Patricia L. CARELL عندما تحدثت هي الأخرى  عن إشكالية الفهم و بينت في عملها أنه للوصول إلى  ما يسمى  بالفهم يقوم القارئ بعمليتين ذات اتجاهين مختلفين: ” العمليات ذات الاتجاه ”أسفل – أعلى ” و العمليات ذات الاتجاه ” أعلى – أسفل ” .

يعمل الفرد عند قيامه بالعمليات الذهنية  ذات الاتجاه ” أعلى – أسفل”  إلى إعطاء معان مسبقة لمضمون النص و ذلك – كما أشرنا إليه – انطلاقا من تجاربه السابقة و معلوماته العامة، ثم يقوم القارئ بمقارنة تلك المعاني مع مضمون النص و ذلك بقصد تأكيد أو استبعاد تلك المعاني المعطاة مسبقا. أما العمليات ذات الاتجاه ” أسفل – أعلى ”  فهي التي تجري على مستوى الوحدات اللغوية أي على مستوى الأشياء المكتوبة، و يقوم الفرد من خلالها بمقابلة مضمون تلك الوحدات اللغوية مع معلوماته و ذلك للتعرف على مدى تناسقها”[8] .

إن ما ذهبت إليه  باتريسيا كاريل  Patricia L. CARELL فيما يخص العمليات ذات الاتجاه ” أعلى – أسفل ” يشير بطريقة واضحة إلى مختلف الأنشطة التي يقوم بها الفرد عند القراءة. كما رأينا – حسب وجهة نظر هذه الباحثة – يقوم الفرد عند القراءة بنوعين من العمليات الذهنية هما:

أ – تكوين معان مسبقة حول محتوى النص.

ب – فحص محتوى النص  لتأكيد هذه التصورات أو تغييرها.

إن العمليات التي تجري على هذا المستوى – ” أعلى – أسفل” – تمثل بالنسبة لباحثين آخرين مثل  جيرار فينيي  Gérard Vigner   جوهر عملية القراءة. وحول هذا الموضوع يقول هذا الباحث : ” يقصد بعملية القراءة تكوين افتراضات دلالية لمحتوى النص. و تستمر عملية الافتراض هذه حتى يصل القارئ إلى المعنى الذي يرمي إليه الكاتب. ” [9]

انطلاقا من التعريف المقدم من جيرار فينييه  Gérard Vigner حول عملية القراءة نستطيع أن نقول أن ما تسميه  باتريسيا كاريل Patricia L. CARELL بالعمليات  ذات الاتجاه ” أسفل – أعلى ” تحتل أو تلعب دورا ثانويا في عملية الفهم. يقول جيرار فينيي  Gérard  Vigner في هذا الخصوص : ” يبدو في النهاية أن الذي يلعب دورا رئيسيا في عملية الفهم هي العمليات الذهنية التي يقوم بها القارئ و ليس درجة الكفاءة في اللغة، إذ تلعب هذه الأخيرة دورا ثانويا في عملية الفهم. يقوم الفرد عند القراءة بعدة عمليات ذهنية و يستخدم معلوماته العامة و  بالتالي تحتل أو  توضع العناصر المتعلقة بالوحدات اللغوية في الدرجة الثانية علما بأن درجة كفاءة القارئ تحظى – حسب النظرة التقليدية للعملية التعليمية –  ببالغ الأهمية.” [10]

بينما تطرق كل من باتريسيا كاريل Patricia L. CARELL و جيرار فينييه  Gérard Vigner  إلى إشكالية عملية الفهم منطلقين من طبيعة العمليات التي يستخدمها أو يقوم بها الفرد عند القراءة، تناول فرانك سميث  Frank  Smith الموضوع نفسه مركزا اهتمامه على طبيعة المعلومات التي يعتمد عليها القارئ. يقول هذا الباحث : ” تعتمد عملية القراءة على المعلومات التي يستقبلها الجهاز البصري و على المعلومات الموجودة في ذهن القارئ أي في ما يسمى بتركيبته الذهنية Sa structure cognitive   [11″

إن  قول فرانك سميث  Frank  Smith يمكن أن يجعلنا نعتقد أن الجهاز البصري يلعب دورا رئيسيا في عملية القراءة. في الواقع، إن وظيفة الجهاز البصري تتمثل في استقبال المثيرات و إرسالها إلى الدماغ على هيئة ذبذبات عصبية تكون متوافقة للمثيرات التي تم استقبالها. إن هذا يعني أنه – على مستوى الجهاز البصري – تبقى المعلومات بدون مضمون دلالي. إن هذا الأخير يُعطى من طرف القارئ بعد قيامه بعملية استبعاد و اختيار[12] على مستوى الدماغ. يقول كل من ميشال شميت و آلان فيالا M. P. SCHMITT, A. VIALA  : “إن القراءة هي أولا عملية إدراك لمجموعة من الإشارات البصرية. عملية الإدراك هذه لا تؤدي إلى إعطاء معنى إلا بعد قيام الفرد بمجهود إقصائي واختياري  بالغ الأهمية للافتراضات التي تتناسب مع محتوى النص ” [13].

في نهاية حديثنا عن طبيعة العمليات المؤدية إلى عملية الفهم، نستطيع أن نقول – انطلاقا من مختلف المقولات التي سردناها – أن القارئ يستخدم عضوين هما : الجهاز البصري و الدماغ. فمعرفة طريقة عمل هذين العضوين تمكننا من اتباع طريقة مثلى عند القراءة و بالتالي نتوصل إلى فهم محتوى النص. في الحقيقة، لكي ندير عملية القراءة بشكل فعال، علينا أن نعرف أولا كيف نقرأ. إن معرفة القراءة هي قبل كل شيء حسن إدارة النظام البصري. يقول فرانك سميث  Frank  Smith في هذا الخصوص : ”يكون التقاط المعلومات في نظرة واحدة في الخمس أجزاء الأولى من المائة من الثانية أو أقل من ذلك، أما في بقية الوقت فليس للجهاز البصري أي وظيفة في عملية القراءة حينها يقوم الدماغ بمعالجة المعلومات المرسلة إليه. فإذا تم إرسال معلومات جديدة إلى الدماغ و لم يفرغ هذا من معالجة تلك التي أرسلت إليه في فترة سابقة، لا يقوم الدماغ بمعالجة المعلومات الجديدة أو يهمل معالجة المعلومات التي لم تعالج بعد. وفي كلتا الحالتين تحدث عملية إهمال لجزء من المعلومات المرسلة إليه.”

إن ما أشار إليه فرانك سميث  Frank  Smith عن آلية عمل الجهاز البصري، يسمح لنا بالقول أن اتباع طريقة ” الكلمة تلو الكلمة أثناء القراءة ” لا تسمح للدماغ بمعالجة جميع الكلمات المرسلة إليه. علينا إذن أن نتبنى طريقة ” القراءة الكلية ” بمعنى أن يقوم القارئ بعملية مسح و إرسال مجموعة من الكلمات في آن واحد. إن هذه الطريقة تمكن الدماغ من الانتهاء من معالجة جميع المعلومات المرسلة إليه و بالتالي يتوصل القارئ إلى إعطاء معنى للنص.

3 –  العوامل التي تعيق عملية الفهم   

أثبتت الدراسات العلمية أن للكائن البشري نوعين من الدماغ : الدماغ البدائي و الدماغ العلوي أو القشري، و لكل من هذين الدماغين علاقة مع العملية التعليمية من حيث النجاح و الفشل.

حول وظيفة هذين الدماغين يقول ميشال دو كوافي  Michel  de Coeffé :

” الدماغ البدائي : يرسل الدماغ البدائي المعلومات القادمة من الحواس  من الواقع إلى درجة الوعي، و يقوم بتخزينها بعد إتمام  تغييرها حسب الغرائز و الواقع المعاش. إن هذا النوع من الدماغ يقوم بترغيب الفرد أو تنفيره و ذلك لكي يجد له متعة  أو ليجنبه الإزعاج. و من ثم يقوم هذا النوع من الدماغ  بإعادة نفس نماذج العمل الذهنية.

” الدماغ العلوي أو القشري  Le cerveau supérieur ou Cortex : يقوم هذا الدماغ بإصلاح تجاوزات الدماغ البدائي و يحاول أن يبصر العالم بطريقة أفضل و يتعامل معه. إن ميزة الدماغ العلوي – عند مقارنته بالدماغ البدائي- تكمن في قدرته على الانفتاح و قدرته عن طريق التبادل المستمر أن يكتسب آليات عمل جديدة و أن يطبقها و بالتالي يقوم بتخزينها، إن هذا الدماغ ينمي نفسه بنفسه “. [14]

مما سبق ذكره عن وظيفة الدماغ البدائي و الدماغ العلوي، يمكننا القول إن بعض مشكلات الطلبة الدراسية يمكن أن تعود إلى اعتماد بعض المتعلمين في دراستهم على الدماغ البدائي. في الواقع، إن هذا المستوى من الدماغ يقوم بمقارنة محتوى المادة الدراسية و التراكيب الذهنية الموجودة في الذاكرة. وإذا كان هناك تطابق بين هذه المعطيات و تلك، فإن الدماغ البدائي يسمح بمرور المعلومة، أما إذا لم يكن هناك تطابق أي في حالة وجود معطيات لا يمكن فهمها بتطبيق النماذج الذهنية المخزنة في الذاكرة، فإن هذا النوع من الدماغ يقوم برفض هذه المعلومة ووضعها في صورة نحكم عليها بالصعوبة.

إن هذا الإحساس يقف حائلا أمام القيام بأي مجهود لفهم المادة العلمية، الأمر الذي يجعل كل عملية تعليمية مستحيلة. إن نجاح العملية التعليمية تتطلب من التلميذ السيطرة على الدماغ البدائي و الاعتماد على المستوى العلوي من الدماغ لأنه هو الذي يمكنه من إثراء نماذجه الذهنية و من فهم المادة العلمية فيما بعد.

يمكننا أن نتطرق إلى هذه النقطة – أي العوامل التي تعيق عملية الفهم – من حيث طبيعة النشاط الذهني الذي يقوم به المتعلم و نتساءل لماذا لا يستطيع بعض المتعلمين استرجاع المعلومات.

إن عملية فهم المادة العلمية من عدمه تجعلنا نتساءل لماذا لا يستطيع بعض الطلبة استرجاع محتوى الدروس على الرغم من قيامهم بنشاط ذهني لاستيعاب المادة العلمية. إن هذا السؤال  يقودنا إلى الحديث عن نوع آخر من النشاط الذهني الذي يقوم به التلاميذ الذين لا يتحصلون، في أغلب الأحيان، على نتائج مرضية. في الواقع، إن النشاط الذهني الذي يقوم به هؤلاء التلاميذ لا يرمي إلى فهم المعلومات و بالتالي إلى استيعابها و تخزينها في الذاكرة البعيدة الأجل، و لكنه يرمي إلى حفظ المادة العلمية عن ظهر قلب. في هذا الخصوص يمكن لنا أن نطرح السؤال الآتي:  لماذا لا تؤدي  عملية حفظ المعلومات المحفوظة عن ظهر قلب إلى استيعابها و بالتالي إلى إنجاح العملية التعليمية؟ للإجابة على هذا السؤال يمكن القول أن في الذاكرة بعيدة الأجل وسطين هما:

– الوسط اللفظي و فيه تخزن المعلومات التي حفظت عن ظهر قلب و التي لم يتم ترجمتها إلى صور ذهنية.

– الوسط الدلالي و فيه تخزن المادة العلمية التي تم استيعابها و ترجمتها على هيئة صور ذهنية.

عندما يقوم التلميذ بحفظ المادة الدراسية عن ظهر قلب، أي دون إيجاد أي علاقة بين المعلومات التي تم استيعابها في فترة سابقة و المعلومات التي هو بصدد دراستها، تخزن المعلومات في الوسط اللفظي. إن طبيعة النشاط الذهني الذي يقوم به المتعلم في هذه الحالة لا يمكن التلميذ، في أغلب الأحيان من استرجاع المعلومات و الاستفادة منها في فترة متقدمة من التعليم. بتعبير آخر، يمكن القول إن التلميذ الذي يعتمد فقط في دراسته على عملية الحفظ عن ظهر قلب، يجد نفسه غير قادر على استيعاب محتوى الدروس. و هذا الشيء يبين لنا أسباب فشل التلاميذ الذين يقضون ساعات طويلة في المذاكرة دون الحصول على نتائج مرضية. والعكس من ذلك فإن النشاط الذهني الذي يقوم به المتعلم يرمي إلى فهم المادة العلمية بحيث يصل التلميذ إلى تكوين صور ذهنية يمكن تخزينها في الوسط الدلالي. إن الاعتماد على هذه الطريقة في التعلم هي التي تعطي أفضل النتائج شريطة أن يقوم التلميذ بمراجعة ما تعلمه بطريقة علمية. إن عملية المراجعة هذه تجعل المعلومات في حالة يسهل استدعاؤها و وضعها في الذاكرة القريبة الأجل حتى يتم توظيفها لفهم المادة اللاحقة.

4 – العناصر التي تلعب دورا في عملية الفهم و تحدد مدى نجاح العملية  التعليمية

إن طبيعة عملية الفهم تحتم على الباحث الاعتماد على نتائج العملية التعليمية لدراسة هذا الموضوع. بتعبير آخر يمكن أن نقول أن عملية الفهم تجري في ما نسميه بالصندوق الأسود  Black Box. إن هذه الخاصية لم تمنع الباحثين- و خاصة علماء النفس – من تقديم عدد من الافتراضات لشرح العناصر التي تتدخل في إدارة العمليات التعليمية. و قد انطلق هؤلاء الباحثون من نقطتين هما:

أ – النتائج التي توصل إليها المتعلم بعد فترة معينة من التعليم.

ب – وضعية أو حالة المتعلم وقت انطلاق العملية التعليمية.

ويعتمد الباحثون عند دراستهم  للنقطة الأولى على نتائج العملية التعليمية معتمدين على الدرجات المتحصل عليها و ذلك باعتبارها أداة تسمح لنا بإيجاد نوع من العلاقة بين المدخلات و المخرجات.

أما فيما يخص وضعية المتعلم وقت انطلاق العملية التعليمية و يقصد  بها ” مجموعة المعطيات الشخصية التي يمكن أن تكون لها علاقة بالعملية التعليمية و كذلك التي تؤثر أو يمكن أن يكون لها تأثير على حدوث العملية التربوية و نتائجها ” [15] .  لقد ركز بنجامين بلوم  Benjamin S. Bloom  على هذا الموضوع عند دراسته للمردود الدراسي في إطار ما سماه “بتاريخ التلميذ “و قد قام هذا الباحث بتقسيم وضعية المتعلم إلى جانب معرفي  وجانب وجداني.

يقول  بنجامين بلوم  Benjamin S. Bloom بالنسبة للجانب المعرفي : ” إن حالة المتعلم المعرفية تمثل جانبا من تاريخ التلميذ الذي له دور هام في المراحل التعليمية اللاحقة ” [16]. أما بالنسبة للجانب الوجداني فيقول الباحث نفسه : ” إن الطريقة التي يُقيِّم بها التلميذ نفسه في مراحل التعليم السابقة – سواء كانت النتيجة بالسلب أو الإيجاب- تحدد الخصائص الوجدانية لحالة المتعلم عند انطلاق عملية التعليم في المراحل اللاحقة ” [17]. إلى جانب وضعية المتعلم وقت انطلاق العملية التعليمية تطرق بنجامين بلوم  Benjamin S. Bloom إلى عنصر آخر يمكن أن يساهم في إنجاح العملية التربوية. هذا العنصر هو ” نوعية عملية التعليم ” و يقصد بها : “الخصائص العامة للعملية التعليمية من حيث التفاعل بين عملية التعليم و عملية التعلم ” [18]

إن هذه العناصر الثلاثة لا تلعب الدور نفسه أو لا تساهم بنفس الدرجة في إنجاح العملية التعليمية. فمن وجهة نظر  بنجامين بلوم  Benjamin S. Bloom: ” إن وضعية المتعلم المعرفية في بداية العملية التعليمية يمكن أن تفسر حوالي %  50 من الاختلافات الموجودة بين التلاميذ من حيث المردود الدراسي،  في حين أن الخواص الوجدانية يمكن أن تفسر % 25 من هذه الاختلافات. إن هذين الجانبين يمكن أن يفسرا حوالي % 75 من الاختلافات من حيث المردود في النشاط التعليمي اللاحق” [19] .

إن الاختلافات الموجودة بين العناصر التي ذكرناها – من حيث الأهمية – يقابلها اختلافات من حيث الأثر الناتج عن غياب أو حضور هذا العنصر أو ذاك. يقول  بنجامين بلوم Benjamin S. Bloom في هذا الشأن:

-” إذا كان التلاميذ يملكون المعلومات الأولية الضرورية للقيام بنشاط تعليمي معين، فيجب أن يكون النجاح حليفهم إذا كانت لديهم الرغبة في التعلم و إذا كانت نوعية التدريس ملائمة لخصائص المتعلمين. ” [20]

– ” يستطيع التلاميذ أن يتعلموا و لو لم تكن لديهم الرغبة الأكيدة في الدراسة، و لكنهم يخفقون في غياب المعلومات الضرورية الأولية حتى و لو كانت لديهم الرغبة الأكيدة في الدراسة. ” [21]

– ” إذا كانت لديهم الرغبة الأكيدة في التعلم و يمتلكون المعلومات الأساسية الضرورية يستطيع التلاميذ أن يتعلموا حتى في ظروف تعليمية سيئة. ” [22].

توضح لنا المقولات الثلاث التي ذكرناها أهمية الدور الذي تلعبه المعلومات الأولية وقت انطلاق العملية التعليمية. في الحقيقة، يلعب هذا العنصر دورا مهما، إذ أنه يحدد بل و يقرر مدى نجاح العملية التعليمية أو فشلها. يمكن لنا القول إنه يسمح لنا  بالتنبؤ بنتائج العملية التربوية.

5  – الانعكاسات التربوية

إن قراءة هذا العمل يدفعنا إلى طرح العديد من التساؤلات ذات طبيعة منهجية. نستطيع أن نقول أن بعضها من شأنه أن يدفع بعض المدرسين إلى إعادة النظر في طريقة تدريسهم. فكما سبق و أشرنا : عملية الفهم ليست ناتجة عن شرح كلمات أو جمل بل إنها عملية إنتاج. إن هذا التعريف لعملية الفهم ينبع من المفهوم الجديد للعملية التعليمية، حيث ننتقل من نموذج لعملية الفهم يلعب التلميذ فيه دور المتلقي و المستهلك للمعلومات إلى نموذج يلعب فيه هذا الأخير دور المبدع. وبتعبير آخر، إننا ننتقل من نموذج لعملية الفهم يتيح لنشاط المتعلم مجالا ضيقا، إلى نموذج يلعب فيه النشاط الذهني الذي يقوم به الدور الأساسي في عملية الفهم.

إن إعطاء هذه الدرجة من الأهمية لهذين العنصرين يتطلب نظرة جديدة و طريقة تعامل جديدة مع النص، و من شأن هذه النظرة الجديدة أن تزود التلاميذ بالأدوات التي يمكن أن تسهل اكتساب ما يسمى ” بمهارة القراءة ” و بالتالي ” مهارة الفهم ” . وكما سبق و بيَّنا، فإن عملية الفهم تتميز بالتفاعل بين نوعين من الآليات: الآليات التي تعتمد على النص و الآليات التي تعتمد على المعلومات. إن بين هذه الآليات و تلك علاقة بمعلومات القارئ العامة. إن طبيعة هذه المعلومات – الأولية و الأساسية – يمكن أن تسهل نشاط التلميذ أو تعيقه. إن هذه الوضعية – التي تحمل جانب الإلزام  – تدفع المدرسين الحريصين على إنجاح العملية التعليمية إلى اقتراح النصوص التي تحتوي على مضامين ذات محتوى معروف من قبل التلاميذ. في الواقع، إن اقتراح مواضيع ذات مضمون جديد يدفع بالمتعلمين إلى الاعتماد – لفهم النص – على المعلومات الموجودة داخل النص فقط، و هذه الطريقة لا  تجدي أبدا. وبتعبير آخر يمكن أن نقول أن غياب المعلومات الأولية و الأساسية ذات العلاقة بمحتوى النص يدفع التلاميذ إلى تبني – عند القراءة – ما سماه فرانك سميث  Franck  Smith بطريقة القراءة أو ” الرؤية  النفقية ” [23]. يقول هذا الباحث حول هذه النقطة  : ” إننا لا نستطيع أن نتوصل إلى عملية الفهم إذا انتهجنا في القراءة طريقة ” الرؤية النفقية ” سواء كان ذلك على مستوى الكلمة أو النص ” [24].

إن طبيعة الدور الذي تلعبه المعلومات العامة و الأولية في عملية الفهم يمكن أن تشرح لنا سبب بعض حالات الفشل الدراسي. وبتعبير آخر، نستطيع أن نقول  إن عدم امتلاك المعلومات العامة يمكن أن يمثل عائقا يحول دون الوصول إلى الأهداف المرجوة من العملية التربوية. يمكن أن نقول كذلك إنه في حالة استيعاب هذه المعلومات الأولية فقط من قبل جزء من التلاميذ تصبح هذه المعلومات عاملا مولد اللفروق بين التلاميذ الموجودين في المجموعة الواحدة. يقول ميشال سانت أنج Michel Saint – Onge  :” تشير البحوث الآن إلى أن ما يميز التلاميذ الكبار عن التلاميذ الأقل سنا، التلاميذ الجيدين عن التلاميذ الضعاف، المستجدين عن المختصين هو الاختلاف الموجود في مستوى المعلومات الأولية وقت انطلاق العملية التعليمية و الثروة اللغوية و مجموعة الأساليب الذهنية التي يستعملها الفرد أثناء عملية القراءة ” [25]. إن هذا يقودنا إلى القول أن عدم  أخذ وضعية المتعلمين بعين الاعتبار وقت انطلاق العملية التعليمية يمكن أن يكون سببا في فشل هذه العملية، و بتعبير آخر، إن اتباع طريقة ما نسميه ” إنهم في الصف كذا،  و المفروض معرفتهم هذه الأشياء ” لا تضمن نجاح العملية التعليمية و لا ينتج على ذلك إلا وضع التلاميذ في حالة فشل دراسي منذ انطلاق العملية التعليمية. هذا، إلا إذا قام المدرس بمراجعة طريقته في التعليم؛ بمعنى آخر: إذا قام المدرس بعملية ملاءمة بين عملية التعليم و عملية التعلم. وحول هذه النقطة يقول  بنجامين بلوم  Benjamin S. Bloom : “إن المنهج المحدد بطريقة دقيقة ليتم تدريسه على هذه الصورة و دون أي تحوير محتمل يفقد معناه عندما لا يملك التلاميذ المعلومات الأولية الأساسية المعرفية المناسبة. إن غياب هذه المعلومات تحول دون وصول التلاميذ إلى الهدف المحدد كمعيار لنجاح العملية التعليمية. وعلى العكس من ذلك، إذا كانت احتمالية التغيير في طبيعة النشاط التعليمي واردة. في هذه الحالة، يمكن للتلاميذ الذين لا يملكون بعض المعلومات الأولية أن يقوموا بعملية استدراك لتلك المعلومات بفضل طبيعة طريقة التدريس المتبعة من قبل المدرس” [26]

من قراءتنا لمقولة  بنجامين بلوم  يمكن أن نفهم أن نجاح العملية التعليمية يتطلب في التدريس تبني  طريقة من شأنها أن تجعل هذه العملية ذات طبيعة تفاعلية بين عملية التعليم و عملية التعلم. في الواقع، يمثل المتعلم الآن الركيزة الأساسية في العملية التعليمية، ذلك  أن هذا الأخير يعتبر المحور الرئيسي لأغلب البحوث التي تجرى في الوقت الحالي. إن هذا التصور لدور المتعلم يمكن أن يدفع  جزءا من  المدرسين إلى إعادة النظر في طريقتهم في التدريس و ذلك من مرحلة تحضير الدروس إلى مرحلة تقييم نتيجة العملية التعليمية.

إغلاق